السياسات الاقتصادية الجزائرية الدكتور: عبد الكريم بن أعراب الجزء الثانى منقول
صفحة 1 من اصل 1
السياسات الاقتصادية الجزائرية الدكتور: عبد الكريم بن أعراب الجزء الثانى منقول
الجزء الثاني
السياسات الإقتصادية للفترة 1966-1979.
يمكن تناول السياسات الإقتصادية الجزائرية خلال الفترة 1966-1979 من زاويتين: الزاوية الأولى تتعلق بالأطر النظرية التي اعتمد عليها نموذج التنمية الجزائري، والزاوية الثانية تتعلق بالنمزذج الجزائري للتنمية وإنجازاتة.
2-1-النموذج الجزائري للتنمية.
يقوم النموذج الجزائري للتنمية على ركائز يمكن تلخيصها فيما يلي:
أ- الركيزة الأولى تتمثل في سياسة استرجاع الثروات الوطنية وهو ما نلتمسه من سلسلة التأميمات التي قامت بها الجزائر.
ب- الركيزة الثانية تتعلق باختيار الجزائر للمنهج القائم على التخطيط المركزي، المخطط الثلاثي 1967-1969 ثم مخططين رباعيين 1970-1973 و 1974-1977 .
ت- الركيزة الثالثة تتمحور حول التصنيع، بمعنى الإرتكاز على إقامة صناعة قوية. السياسة الجزائرية ارتكزت على نموذج الصناعات المصنعة.
لكي نفهم أكثر طبيعة وفلسفة النموذج الجزائري ارتأينا أن نعرض معنى التصنيع ومكانته في نظريات التنمية وذلك على المستوى العاالمي قبل دراسة وتحليل لبنموذج الجزائري.
2-2- حركة التصنيع في العالم
عملية التنمية عملية معقدة تختلف من مجتمع لآخر نظرا للإختلافات في التاريخ و العادات و القيم الأخلاقية و الروحية و الإجتماعية، و الثقافات و السلوك الحضاري. الجدال الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية حول أهم و أقصر طريق لتحقيق معدلات نمو عالية و الخروج من دائرة التخلف و محاربة البؤس و الفقر، لم يتوج بإتفاق بين منظمي التنمية حول النموذج الأمثل الذي يجب إتباعه. هل الإعتماد على ترقية القطاع الزراعي ؟ أم الإعتماد على إنشاء قطاع صناعي قوي ؟ هل الإعتماد على الصناعات الثقيلة أم الإعتماد على الصناعات الخفيفة ؟ أم الإعتماد على قطاع الخدمات ؟، من أجل تحقيق تنمية عاجلة و سريعة خاصة في البلدان النامية و المستقلة حديثا.
البحث في مكانة التصنيع في عملية التنمية يقودنا إلى البحث عن تاريخ التصنيع في العالم ثم معرفة مكانة التصنيع في نظريات التنمية ثم مكانة التصنيع في النموذج التنموي الجزائري. هذا يسمح لنا بمعرفة المكانة التي حظي بها التصنيع و قطاع الصناعة و كذلك التأثيرات التي تكون قد أقنعت المسؤولين الإقتصاديين الجزائريين بالإستثمار المكثف في قطاع الصناعة، كما يسمح لنا من خلال الأحداث التاريخية المشار إليها من معرفة البلدان التي سبقت و إن إعتمدت على التصنيع و ما حققته من نتائج، و التي يمكن أن تكون المرجع الذي أدى بالجزائر أن تحذو حذوها.
البحث في تاريخ التصنيع يقودنا إلى القرن الثامن عشر لما عرف به من إختراعات و إكتشافات و كذلك ما إتفق على تسميته بالثورة الصناعية التي مرت بعدة مراحل، كانت بدايتها ثورة الحديد و الفحم و ما عرفته من تطورات خلال الفترة ما بين 1780و1850، تلتها مرحلة ثانية هي ثورة الفولاذ و الكهرباء خلال الفترة الممتدة بين 1850و1914.
الثورة الصناعية إرتبطت بقارة أوروبا، لكن الأمم الأروبية لم تعرف التصنيع في آن واحد بل كان التطور متباين و بوتيرة مختلفة من دولة لأخرى.
إنجلترا تعرف بمعهد الثورة الصناعية، على الرغم من إختلاف المؤرخيين في تاريخ بداية التطور الصناعي بهذا البلد (بين 1740 و السنوات الأولى للقرن الثامن عشر) إلاأنها تعتبر سباقة في هذا الميدان، بينما تأخر جزء من البلدان الأروبية حتى 1914، لكن التصنيع في أوروبا أصبح أمرا واقعيا قبل 1900 (1).
ظهور الصناعة في إنجلترا ثم في فرنسا ثم في بلجيكا ثم في ألمانيا، التي تطورت الصناعة فيها بشكل سريع خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، عمقت الفجوة بين أوروبا و باقي القارات مما أعطى لهاته القارة قوة إقتصادية أستغلت إستغلالا أمثلا في التوسعات الأوروبية إتجاه مختلف مناطق العالم قصد السيطرة على المواد الأولية و الثروات الطبيعية. باقي الدول الأوروبية تطورت بها الصناعة هي أيضا، لكن بدرجات متفاوتة كالنمسا و إسبانيا و البرتغال و إيطاليا و اليونان.
الولايات المتحدة الأمريكية تطورت بها الصناعة بشكل سريع و أصبحت منافسا قويا للدول الأوروبية. أما الإتحاد السوفياتي سابقا فقد خطى خطوات عملاقة في ميدان الصناعة خاصة بعد إنتهاجه لنظام تخطيط دقيق بعد سنة 1928 . مما سمح له أن يحتل الصف الثاني بعد الولايات المتحدة الأمريكية، كثاني دولة صناعية في العالم، مخلفا وراءه كلا من ألمانيا و إنجلترا على الرغم من أنه كان يعتبر البلد الأكثر تأخرا في ميدان الصناعة عشية الحرب العالمية الثانية(2).
هنا تكمن العلاقة بين التطور السريع في ميدان الصناعة و إحتلال المرتبة الثانية و الدخول في تنافس مع البلدان السباقة في ميدان التصنيع من جهة و التخطيط الدقيق المنتهج من جهة أخرى، مع الإشارة بأن الصناعة ظهرت في روسيا في القرن التاسع عشر و لكن بوتيرة بطيئة.
بالإضافة إلى سيرورة التصنيع في بلدان أوروبا و الولايات المتحدة الأمريكية فإن مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية تعتبر مرحلة التكتلات الكبرى كتأسيس المنظمة الأروبية للتعاون الأقتصادي و التي كان دورها الأول هو تطبيق برنامج المساعدة "مخطط مارشل" و ذلك في سنة 1948، تلتها مباشرة، في 25 جانفي 1949، تأسيس مجلس المساعدة الإقتصادية المتبادلة (كوميكون) والذي يبرز كهيئة للتعاون الإقتصادي لمختلف الدول الإشتراكية ملتفة حول الإتحاد السوفياتي.
ظهور معالم لتكتل محايد بباندوق في 1955، بلورت فيما بعد فكرة عدم الإنحياز و إنضمام العديد من الدول المستقلة حديثا إليها .
مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية إتسمت أيضا ببروز حركات التحرر وإرادة الشعوب في التحرر في القارات الثلاث (إفريقيا، أسيا، أمريكا اللاتينية ). إنتصار الثورة الصينية سنة 1945، كوريا سنة 1954، مصر سنة 1956، كوبا سنة 1959 و الجزائر سنة 1962(3) و تجسيد إرادة الشعوب في تقرير مصيرها. العامل المشترك بين إنتصار الثورات و الحركات التحررية في مختلف مناطق العالم هو مبدأ النظام الشعبي في الحكم.
إذا كان الوضع الدولي قد إتسم بما سبق عرضه فإن إستعراض أهم نظريات التنمية و مكانة التصنيع فيها يعطينا فكرة عن محيط الفكر الإقتصادي السائد حتى فترة الستينيات.
2-3- مكانة التصنيع في أهم نظريات التنمية
عملية التنمية مرتبطة بتشابك العمليات الإقتصادية و السياسية و الإجتماعية. الإقتصاديون، عند تناولهم لقضايا التنمية، تطرقوا إلى مختلف العوامل التي يمكن أن تؤثر فيها أو عليها و التنمية عملية معقدة، مختلفة الجوانب، متعددة الأطراف.
نحاول فيمايلي إستعراض بعض النظريات التي تناولت التنمية.
النظرية الماركسية إفترضت أن نموذج المجتمعات المصنعة يمكن تطبيقه لاحقا في مجتمعات أخرى، أما روستو فقد حدد مراحل النمو بخمسة مراحل (المجتمع التقليدي، إجتماع ظروف الإنطلاق، الإنطلاق، النضج، مرحلة الإستهلاك الكتلي)(4). التصنيع في نظر روستو يبدأ في المرحلة الثالثة (الإنطلاق).
بعد الحرب العالمية الثانية إنقسمت النظريات الإقتصادية إلى الإتجهات الأتية :
1- نظرية النمو المتوازن في خضم التيار الكينزي .
2- نظرية التنمية، بدءا بأعمال أرتيرلويس (ARTHUR LEWIS)، التي إنبثقت عنها النماذج التي يمكن تلخيصها فيما يلي : (5)
أ- نموذج التنمية بتصدير الموارد الطبيعية.
ب- نموذج التنمية بإحلال الواردات.
جـ- نموذج التنمية بالصادرات الصناعية.
3- نظرية النمو الغير متوازن (هيرشمان (HIRSCHMAN.
4- ظرية التنمية القطبية.
5- نظرية الدفع الكبير ( BIG PUSH).
كل نظرية من النظريات السابقة بلورت نموذجا من نماذج التنمية الذي يمكن إعتماده لتقدير مجتمع ما كمحاولة للإجابة عن السؤال الرئيسي الذي كان دائما يطرح في أدبيات التنمية الإقتصادية و المتعلق بهل البلدان المتخلفة إقتصاديا مضطرة للمرور بجميع مراحل التطور الرأسمالي أم أن هناك طريق مختصر يمكن من تحقيق تنمية في المجتمع دون إنتظار المرور بجميع المراحل التي سبقت التطور الرأسمالي ؟.
نحاول أن نبحث مكانة التصنيع في نظريات التنمية بعد عرض الإتجاهات الرئيسية للنظريات الإقتصادية التي إهتمت بمواضيع التنمية.
إن الجدال التقليدي الذي ساد بين منظري التنمية تعلق بالمفاضلة بين قطاع الزراعة و قطاع الصناعة و بين فرع الصناعات المنتجة لوسائل الإنتاج وفرع الصناعات المنتجة لوسائل الإستهلاك و بين القطاعين و قطاع الخدمات أو بالإعتماد على قطاع الزراعة و قطاع الصناعة معا (*5 مكرر).
ظهور إقتصاديات التخلف و الإهتمام ببلدان العالم الثالث و مناهج تنمية هاته البلدان للوصول إلى مستوى تطور البلدان المتقدمة صناعيا، ركزت على التصنيع كمؤشر رئيسي من بين المؤشرات التي تؤخذ لقياس مستوى تنمية بلد ما.
ضعف التصنيع أعتبر خاصية البلدان المتخلفة لدرجة أنه أصبح يعتقد أن مصطلح عالم ثالث مرادف لعدم التصنيع، والتنمية تعني التصنيع (6).
دراسة النماذج التنموية الصناعية من حيث تطورها التاريخي و تسلسلها، و إستعراض النماذج التي إهتمت بالتصنيع، يقودنا إلى سنة 1958عندما ظهر نموذج ولتر هوفمان(WALTER HOFFMAN) و الذي ركز على صناعة السلع الإستهلاكية في المرحلة الأولى ثم الإهتمام بصناعة السلع الرأسمالية (biens capitaux) في المرحلة الثانية تلته نماذج العديد من الإقتصاديين(7) أمثال شينري (CHENRY)، و تايلور (TAYLOR)، و تمين(TEMIN)، و سيركين(SYRQUIN)، و جاميسون (JAMISON)، و كادير(KADER) ، و نموذج الأمم المتحدة الذي برز من خلال بحث التنمية الصناعية و تعريفها للتصنيع و ذلك سنة 1963.
النماذج التي إهتمت بقطاع الصناعة كوسيلة للتنمية أبرزت مزايا التصنيع التي يمكن تلخيصها فيمايلي :
1- خلق أقطاب التنمية.
2- التصنيع كشرط لإنتشار التقدم التقني.
3- التصنيع يسمح بالتحولات الأولية للهياكل الإقتصادية و الإجتماعية.
4- التصنيع يساهم في ربط الإقتصاد.
5- التنمية الصناعية تضمن توازن إقتصادي جيد.
هاته المزايا لم تخلو من إبراز الصعوبات التي تواجه عمليات التصنيع و التي تختلف من بلد إلى آخر كندرة رأس المال و ضيق الأسواق و تواجد ثنائية إقتصادية، و دور القطاع العام و القطاع الخاص و ندرة اليد العاملة المؤهلة، بالإضافة إلى الجوانب الثقافية للمجتمعات و سلوك الفرد إتجاه الآلة. أي الذهنيات فيما إذا كانت متطورة و مسايرة للتقدم التقني أم متخلفة عنه ورافضة له.
حاولنا فيما سبق أن نكون إطارا للظروف التي أحاطت و التي تكون قد أثرت في إختيار نموذج التنمية في الجزائر بعد 1967، لإيجاد أسس مرجعية و مبررات هذا الإختيار من دون إختيار نماذج أخرى.
دور الجزائر و مكانة ثورتها و طبيعة إستراتيجية تنميتها أهلتها لجلب أنظار المهتمين بنظريات التنمية من جهة و بلورة فكرة عدم الإنحياز من جهة أخرى، هذه الحركة (أي عدم الإنحياز) التي أبرزت، من خلال برامجها، إتجاهين رئيسيين لعمليات التصنيع في مختلف دوراتها : الجزائر 1973، ليما 1975، كولمبو 1976 (Cool.
الإتجاه الأول إرتكز على تنظيم التصنيع في خدمة التنمية الزراعية و سعادة الشعب، أما الإتجاه الثاني فقد إرتكز على التصنيع المستقل الموجه للداخل.
إن الأفكار الإقتصادية الواردة في مختلف نظريات التنمية -كما ذكرنا- ركزت بشكل كبير على الصناعة، ناهيك عما حققته الدول التي سبقت و إنتهجت النماذج المبنية على قطاع الصناعة لذا فإننا إذا أردنا أن نبحث عن مبررات إختيار النموذج الجزائري للتنمية فإنه من البديهي أن نستنتج بأن الحديث عن الصناعة كضرورة حتمية عن التنمية يكون قد أبهر متخذي القرار الإقتصاديين و أقنعهم بأن لا تنمية بدون صناعة. و هو مايلاحظ عند جميع الشعوب المستقلة حديثا التي طمحت لتحقيق تنمية بإنشاء قطاع صناعي قوي.
لكي نتعرف على مكانة التصنيع في نموذج التنمية الجزائري نتناوله بالبحث في الفقرات الموالية.
2-4- مكانة التصنيع في نموذج التنمية الجزائري
المشاكل التي تواجه الحكومات، بعد إستقلال بلدانها، مشاكل معقدة، صعبة، متشابكة، متشعبة الإبعاد، نتيجة الظروف الإقتصادية و الإجتماعية التي تطبع البلد المستقل و التي توصف بالصعبة و بالمتدهورة من جهة و نشوء الصراعات بين مختلف القوى الضاغطة على تولي الحكم و نتظيم شؤون الدولة من جهة أخرى.
دور الصناعة و أهمية التخطيط بديا بوضوح مع بعث المخطط الثلاثي 1967-1969 و الذي كان بمثابة تطبيق لما ورد في بيان مجلس الثورة (جوان 1965) و أبرز المعالم الأولى لنموذج التنمية الذي سيتضح فيما بعد.
المهتمون بإقتصاد الجزائر أثناء تناولهم لتجربة الجزائر التنموية يصنفون النموذج التنموي الجزائري تحت تسمية نموذج الصناعات المصنعة الذي إرتبط بالإقتصاديين فرانسوا بيروا و ديستان ديبرنيس (G.DESTANE DE BERNISet F.PERROUX ) (9). هذا النموذج أعتمد على إقامة صناعات ثقيلة تقوم بجر بقية الفروع و القطاعات.
البلدان المستقلة حديثا تواجهها صعوبات عدة في إختيار نموذج التنمية، هذه الصعوبات هي من طبيعة و تعقيد عملية التنمية نفسها.
إختيار النموذج التنموي تواجهه المفاضلة بين إنشاء القاعدة الأساسية للبلاد و مكانة الزراعة في التنمية و إختيارات التنمية الصناعية. (10) بالإضافة إلى طبيعة و ثروات البلاد التي كثيرا ما لعبت دورا تأثيريا في إختيار نموذج التنمية.
أثناء دراستنا و تحليلنا و إستعراضنا للنصوص المرجعية و تاريخ التصنيع و نظريات التنمية في العالم لغاية عشرية الستينيات كان بإمكاننا أن نتصور النموذج الجزائري وفق المعالم المستنتجة من الدراسة، بأنه نموذج قد يعتمد على :
- التجميع و المشاركة (Socialisation).
- الديمقراطية من خلال مساهمة الفلاحين و العمال في القرار الإقتصادي.
- التخطيط.
- عالم الريف و الزراعة.
- الإختلاف عن المناهج المتبعة في بقية البلدان (مبدأ الخصوصية).
- القطيعة مع نماذج المستعمر.
- الأخذ بعين الإعتبار تجارب الشعوب المستقلة في التنمية.
تجسيد هذه المحاور في نموذج تنموي نابع من النصوص المرجعية يكون مطابقا تماما مع ما ورد في وثائق الثورة الجزائرية ( هذا بعد إطلاعنا على كل الوثائق المتعلقة بالثورة الجزائرية و كذلك ميثاق الجزائر 1964). لكننا نلاحظ أن الإرادة السياسية لدى متخدي القرار الإقتصاديين الجزائريين كانت تبحث عن نموذج طموح متميز محايد و مختلف عن النماذج التنموية التي يمكن التذكير بها فيما يلي :
1- النماذج التنموية التي تعتمد على الصناعات المنتجة لوسائل الإنتاج.
2- النماذج التنموية التي تعتمد على الصناعات المنتجة لمواد الإستهلاك.
3- النماذج التنموية التي تعتمد على الزراعة و الصناعة في آن واحد بنسب معينة.
إختيار نموذج الصناعات المصنعة، الذي يبدو متكاملا و متوازنا من الناحية النظرية، لكونه يعطي إطارا لتنمية البلاد في جميع الميادين، و يبرز الدور الريادي الذي أوكل للصناعات الأساسية الثقيلة التي تؤثر على الصناعات الخفيفة لتجرها إلى التطور و النمو و تؤثر على قطاع الزراعة بإمداده بوسائل إنتاج حديثة تكون سببا في تطوير الزراعة و تحديثها ثم تسيير القطاعات متأثرة فيما بينها لخلق ديناميكية حيوية و نشطة في عملية التنمية، جسد هذا التصور في إطار ما عرف «بتسويد مصفوفة التبادل القطاعي».
عرض النموذج و تحليله من الناحية النظرية يوعد بالكثير فهو يلبي الأغراض و يحقق الطموحات، يعتمد على التخطيط و يرتكز على الصناعات الثقيلة دون إهمال الصناعات الخفيفة، يهتم بقطاع الصناعة و في نفس الوقت يهدف إلى تطوير قطاع الزراعة، يضمن الحياد بإبرازه كتجربة رائدة في العالم الثالث، و يهدف إلى توجيه الإقتصاد للداخل و كسر العلاقات التقليدية مع المستعمر.
التحليل من الناحية الفنية للنموذج يجعلنا نتساءل عن الأسباب التي حرضت على إختيار هذا النموذج. فهو يعتمد على مستوى تكنولوجي عال في إنشائه للمؤسسات الصناعية التي تتطلب كثافة رأسمالية عالية و هذا يضع المقرر الإقتصادي أمام معادلة صعبة الحل. نظرا لندرة رؤوس الأموال و المستوى العالي للبطالة إذا إفترضنا أن من بين أولويات التنمية هي القضاء على البطالة و إمتصاص أكبر عدد ممكن من اليد العاملة المتاحة و العاطلة، هذا الإختيار يبرر بكون الجزائر تحتوي على مورد طبيعي من أهم الموارد متمثل في المحروقات التي تستغل و تصدر لتكون مصدرا مهما لتمويل التنمية، هنا أيضا تواجه المقرر الإقتصادي معادلة أخرى صعبة الحل و تكمن في كون الصناعات المصنعة كان يهدف من ورائها توجيه الإقتصاد للداخل لكن إستغلال المحروقات و تصديرها هو نتيجة حتمية لتوجيه هذا النشاط للخارج.
الإعتماد على الإمكانيات الطبيعية بإستغلال المحروقات و تصديرها لإيجاد وسائل دفع ضرورية لتمويل عملية التنمية و إعتبارها القاعدة الأساسية للتراكم،(11) يجعل من الإقتصاد الجزائري إقتصادا جد متخصصا في تقسيم العمل الدولي.
إذا إفترضنا أن المحروقات قد أعتبرت المورد الأساسي للتمويل الخارجي الذي يبرز كحتمية طبيعية في أية عملية من عمليات التنمية، نظرا لعدة اسباب، من بينها شروط التعامل مع الموردين و ضرورة اللجوء إلى السوق الدولية لإقتناء الحاجيات اللازمة سواءا كانت المصانع نفسها في إطار العقود المبرمة مع الشركات الأجنبية، مهما كانت طبيعة العقد "مفتاح في اليد" أو "منتوج في اليد"، أو المواد الإستهلاكية الغير منتجة على المستوى الوطن، فإن التقديرات المتعلقة بالمداخيل من العملة الصعبة تصبح محكومة بالعوامل الأتية :
- الإحتياطي المؤكد و الإحتياطي المحتمل من المحروقات (12).
2- حجم المحروقات المستخرج و المصدر.
3- سعر البرميل الواحد المباع.
لكون الإحتياطي يوجد في باطن الأرض فإن العامل الثاني و العامل الثالث هما العاملان الأساسيان المؤثران في مبالغ العائدات من تصدير المحروقات.
لو أردنا أن نمثل مبالغ العائدات في شكل معادلة رياضية فيمكن تصورها كمايلي :
Y= F (P.QU)
حيث Y هي مبالغ العائدات مقابل تصدير المحروقات.
P هو سعر الوحدة الواحدة من المبيعات.
QU هي الكمية المباعة.
يبدو واضحا من هذه المعادلة بأن كل تغير في حجم مبالغ العائدات مرتبط بالتغيير في سعر الوحدة المباعة أو الكمية المباعة أو الإثنين معا. هنا تتبادر إلى الذهن عدة تساؤلات من بينها : ماهي الضمانات التي كانت لدى المسؤولين الجزائريين للتحكم في حساب المبالغ المالية المتاحة في ظروف إقتصادية تحكمها وضعية السوق الدولية و الشركات الكبرى ؟ كيف يمكن التأكد من الطلب على المحروقات و بأسعار محددة في ظل المنافسة الناتجة عن تعدد البلدان المنتجة للنفط؟
هذا الوضع أدى بالجزائر و دفعها للعب الأدوار الأساسية فيما سمي بمعركة النفط و فيما بعد معركة المواد الأولية (12 مكرر)* التي نتجت عنها ثلاث قضايا رئيسية :
1- تأميمات البترول و الثروات الباطنية.
2- دور الجزائر داخل منطقة الأوبيك و الأوابيك.
3- المطالبة بنظام إقتصادي عالمي جديد.
الإعتماد على المحروقات بالدرجة الأولى في تمويل التنمية يجعلنا نتساءل أيضا عن هذا الإختيار: هل كان ناتجا عن عدم وجود مصادر أخرى للتمويل؟ هل نفذت كل المصادر المتاحة ؟ هل عبئت كل الإمكانيات المتاحة من إدخار محلي و إستعمال عقلاني للموارد ؟
سنتناول هذه المحاور بالبحث في الفصول القادمة و سنعرف دور كل مصدر من المصادر التمويلية في تمويل التنمية.
يمكن أن نستنتج مماسبق أن طابع الخصوصية قد ميز نموذج التنمية الجزائري الذي يبدو أنه يعكس طموحات سياسية كبيرة أكثر مما يعكس مستوى نضج الأفكار الإقتصادية التي تتطلب الترشيد و العقلنة لدى المقررين الإقتصاديين، سواءا كان نموذج التنمية الجزائري مستمد من نظريات الإقتصادي الروسي فيلدمان (13) FIELDMAN فيما يتعلق بالإختيار التكنولوجي أو معتمد أساسا على أقطاب النمو لما عرف عند فرانسوابيرو و في إطار نظرية التنمية القطبية أو تطبيقا لنظرية الصناعات المصنعة لديبارنيس فإن إختيار هذا النموذج يعكس، في راينا الأفكار الأتية :
1- توحي دراسة النموذج بأنه متوازن و واعد بتنمية قوية و سريعة و شاملة.
2- يوحي بأنه مستمد من النصوص المرجعية بأعتماده على التخطيط خاصة و أن النصوص المرجعية للثورة الجزائرية لم تحدد بوضوح تام طبيعة النظام الإقتصادي الذي سينتهج بعد الإستقلال، هذا الوضع سمح للمقررين الإقتصاديين أن يقدموه كمطلب شرعي سيستند أساسا إلى ما تم الإتفاق عليه في مختلف الوثائق و هذا ما يبرز من خلال الخطب السياسية التي كانت تركز دائما على أن القرارات الإقتصادية لها مستند أساسي يتمثل في مواثيق الثورة الجزائرية.
3- النموذج يوحي بأنه يوجه الإقتصاد للداخل و بالتالي يكسر العلاقات التقليدية مع المستعمر التي كانت تتسم بتوجيه الإقتصاد الجزائري للخارج.
4- يضمن مبدأ الحياد و عدم الإنحياز الذي سجل كمبدء أساسي للجزائر، هذا مايستنتج من خصوصية النموذج و طبيعته و صعوبة مطابقته تماما مع النماذج التنموية المعتمدة في بلدان أخرى.
5- يعكس الطموحات السياسية في إبراز دور الجزائر القيادي في التحرر على جميع الأصعدة.
إذا كانت هناك نتيجة يمكن إستنتاجها من الدراسة السابقة حول إختيار نموذج التنمية الجزائري و طبيعته فإنه يصعب علينا أن نجزم بأن الإختيار تأثر بفكرة دون أخرى و هذا نابع من طبيعة النموذج. فإذا إعتمدنا على ماورد في وثائق الثورة الجزائرية و ميثاق الجزائر 1964 فإن النموذج لا ينطبق تماما مع ماورد في هذه الوثائق لأن الصناعة لم يتم التركيز عليها إطلاقا في حين أن الأهمية القصوى أعطيت للزراعة، لكن مبدأ التجميع و المشاركة (الواردين في مواثيق الثورة) تم تجسيدهما من خلال الفكر الإيديولوجي. عرض نظريات التنمية يجعلنا نتساءل عن إختيار النموذج، لماذا لم يكن مطابقا تماما لإحدى النظريات أو احد المناهج المعروفة لغاية بداية الستينيات ؟
إن دراستنا لنموذج التنمية الجزائري يوحي لنا و كأن المسؤيلين الجزائريين كانوا يبحثون عن نموذج تنفرد به الجزائر و يحقق تنمية سريعة. فإذا كانت هذه عبارة عن طموحات إقتصادية فهل كانت الشروط متوفرة لهذا النموذج من أجل نجاحه ؟ أما إذا كانت طموحات سياسية مبنية على رؤى للمجتمع الجزائري من خلال تنميته إقتصاديا فإننا نطرح إشكالية الطموح السياسي عند تصادمه مع التقنيات الإقتصادية، التي من المفروض أن تؤخذ بعين الإعتبار في كل خطوة إقتصادية قصد تحقيق المردودية القصوى و أعلى مستوى من المنفعة ؟
يمكن لنا إذا رجعنا إلى الوراء و حاولنا تصور الظروف المختلفة التي أحاطت بإتخاذ القرار بإختيار هذا النموذج، مكننا أن نلتمس من نتائج الدراسة أن فترة الستينيات، نتيجة تصعيد حركات التحرر و إستقلال الشعوب، أصبحت الأنظمة السياسية المختارة عبارة عن أنظمة شعبية. لأن كل بلد مستقل حديثا يريد كسر العلاقات التقليدية بينه و بين نظام البلد الذي إستعمره، و لكون البلدان المستعمرة هي بلدان رأسمالية فإن البلدان المستقلة حديثا تكون قد وجدت في النظام الإشتراكي ملجئا يحقق طموحها. الإتحاد السوفياتي و ما تلاه من أنظمة إشتراكية قدمت تجربة التنمية بالإعتماد على الصناعة كأنها التجربة المثلى.
متحذ القرار الجزائري أراد أن يبرز عدم تأثره بنظام دون الآخر و هذا ما نستشفه من خصوصية النموذج التنموي الجزائري الذي وجد في الصناعات المصنعة طريقا يوصله إلى تحقيق الطموحات السياسية و الإقتصادية.
ن البحث عن مبررات إختيار هذا النموذج -بتحليل بعدي- بعدما أصبحت النتائج ممكنة التقويم يصعب لنا الحكم على نموذج بأنه صالح أو غير صالح لكنه يبدو مدعما بمبررات لصالح إختياره دون ضمان نتائجه. التركيز على قضية نضج الأفكار الإقتصادية لدى القررين السياسيين عند إتخاذ أي قرار إقتصادي، لأن ضمان نجاح عملية التنمية يكمن في ضمان الإختيار السليم للنموذج الذي ينبع من واقع المجتمع و مستوى تطوره و تقدمه و ليس من أفكار يمكن أن تكون مرفوضة من طرف المجتمع، ليس لكونها غير سليمة و لكن لكون العوامل الثقافية و التاريخية و الإقتصادية غير مهيأة لتكريس الإختيار و إنجاحه.
لا نريد هنا أن نحكم مسبقا على نجاح أو فشل نموذج التنمية الجزائري لكون أدوات التقويم تختلف من باحث لآخر. مانراه نتيجة إيجابية يمكن أن يظهر كنتيجة سلبية عند باحث آخر و العكس صحيح. لكننا سنحاول أن نقارن أهداف النموذج التنموي التي رسمت له وقت إختياره و النتائج التي تحققت من خلال دراسة نتائج السياسة الإقتصادية. و عندها مقارنة النتائج بالأهداف و بالتالي إبداء الرأي و الحكم على نجاح أو فشل النموذج التنموي في تحقيق أهداف التنمية المرسومة له.
لقد اطلعنا الأن على الجوانب النظرية التي مكنتنا من معرفة الإتجاهات النظرية التي سادت العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وهذا ما يجعلنا نتعرف أكثر على المحيط الدولي العام. فيما يلي ندرس القرارات المتعلقة باسترجاع الثروات الوطنية. أول هذه القرارات يتعلق بالمنظومة المصرفية والمالية.
2-5- النظام النقدي و المصرفي الجزائري خلال الفترة 1966-1979
فعالية النشاطات الإقتصادية مرتبطة بشكل كبير بالنظام المصرفي و المالي و البنكي و النقدي و مدى ملاءمته مع التطورات و التغيرات التي تعرفها مختلف القطاعات، و كذلك مدى قدرته على تعبئة الإمكانيات التمويلية المتاحة و وضعها في إطارها المنظم لتحريك دواليب الإقتصاد عموما و قطاع الصناعة بشكل خاص. قوة المصارف و صحتها المالية دليل على قوة الإقتصاد و صحته.
البلدان المستقلة حديثا تواجهها صعوبات كبيرة عند مباشرتها لعملية التنمية لما تعتريها من عوائق تتعلق بإيجاد مصادر لتمويل الإستثمار «لإعطاء التنمية ديناميكية داخلية حقيقية، يجب بادئ ذي بدء ضمان الحد الأقصى لها من التمويل الداخلي، اللجوء إلى التمويل الخارجي ملزم لكنه يجب أن لا يخضع للمهم»(14).
النظام النقدي و المصرفي و البنكي في الجزائر مر بعدة مراحل، ففي المرحلة التي سبقت سنة 1966، تميز بتواجد قطاعين ماليين، قطاع عمومي و قطاع خاص متشكل أساسا من البنوك الفرنسية. لكن هاته الفترة (1962-1966) عرفت بالنقص الملحوظ للهياكل البنكية نتيجة أفعال عدد كبير من الشبابيك التابعة للقطاع الخاص. من بين 461 شباك موجود قبل الإستقلال عبر التراب الوطني، لم يبق سوى 128 (15) شباك مما أثر سلبا على تشغيل نقدي و تشغيل مالي عاديين.
إعتماد وتيرة تنموية طموحة في ظل نظام بنكي و مالي غير ملائم، و سياسة نقدية و قرضية غير مسايرة يشكل عائقا في وجه كل سيرورة تنموية.
تأميم البنوك و تجميعها و تحديد و تخصيص نشاطها كان بمثابة عملية محاولة التحكم في الأدوات المصرفية لإرصاء القواعد الأساسية لنظام بنكي يتماشى مع طموحات التنمية التي برزت معالمها مع بعث المخطط الثلاثي 1967-1969.
الجدول رقم1يبين لنا كيفية تجميع مختلف المؤسسات البنكية التابعة للقطاع الخاص في بنوك جزائرية وطنية عمومية تكفلت و تخصصت بتمويل الأنشطة و تسيير الأرصدة و مسك الحسابات.
جدول رقم 01– عملية تجميع المؤسسات المالية وانشاء بنوك عمومية جزائرية خلال الفترة 1966-1968
البنك المنشأ
المؤسسات المصرفية المجمعة
تاريخ التجميع
البمك الوطني الجزائري
1-07-1967
- القرض العقاري الجزائري التونسي
- القرض الصناعي والتجاري
- البنك الوطني للتجارة والصناعة
1-07-1966
1-07-1967
1-01-1968
القرض الشعبي الجزائري
19-12-1966
- البنك الشعبي التجاري والصناعي للجزائر
- البنك الشعبي التجاري والصناعي وهران
- البنك الشعبي التجاري والصناعي قسنطينة
- البنك الشعبي التجاري والصناعي عنابة
- البنك الشعبي للقرض الشعبي للجزائر
- بنك الجزائر مصر
- الشركة المرسيلية
29-12-1966
29-12-1966
29-12-1966
29-12-1966
29-12-1966
01-01-1968
30-06-1968
البمك الخارجي الجزائري
12-09-1967
- القرض الليوني
- الشركة العامة
- بنك باركلي
- البنك الصناعي الجزائر والمتوسط
- قرض الشمال
12-09-1967
16-01-1968
20-04-1968
26-05-1968
31-05-1968
هاته البنوك الأولية (الإبتدائية) ليست وحدها في المنظومة البنكية و المصرفية الجزائرية، لكنها تتشابك في عمليات يومية بينها و بين المؤسسات المالية الأخرى، تربطها علاقات مع البنك المركزي و كذا البنك الجزائري للتنمية و هاته الأخيرة لها علاقات وظيفية مع الخزينة العمومية التي بدورها ترتبط في علاقات تقليدية مع البنك المركزي.
لكي تتولد لنا فكرة عن العلاقات الوظيفية بين مختلف المؤسسات المالية و المصرفية يمكن لنا أن نطلع على الشبكة الكلية الناجمة عن إنشاء البنوك الأولية السابقة الذكر و دخولها في علاقات متبادلة مع المؤسسات الأخرى (البنك المركزي، الخزينة العمومية، البنك الجزائري للتنمية). الشكل رقم 1 يوضح لنا هذه العلاقات و الوظائف.
شكل رقم 1
شبكة المؤسسات المالية و المصرفية و البنكية في الجزائر
و وظائفها في بداية عشرية السبعينيات.
من خلال الشكل رقم 1 يمكننا أن نتعرف على الدور الذي أنيطت به المؤسسات المالية و من خلاله تتحكم الدولة في توجيه الأنشطة الإقتصادية و تمويلها.
تطور النظام البنكي و المصرفي في الجزائر ساير مختلف المراحل التي عرفتها سيرورة التنمية الإقتصادية، و يمكننا أن نقسم هاته المراحل إلى الفترات التالية :
الفترة الأولى : تمتد من 1962 إلى 1967، تميزت هذه الفترة بإستمرار الوظائف التقليدية للنظام البنكي و المصرفي الموروث عن الإستعمار.
الفترة الثانية : تمتد من 1967 إلى 1971، و هي الفترة التي عرفت تأميم البنوك و إنشاء بنوك جزائرية مع تخصصها في أنشطة محددة و هي محاولة إرساء شبكة بنكية تماشيا مع المتغيرات الجديدة.
الفترة الثالثة : تمتد من 1972 إلى 1978/1979، و هي الفترة التي عرفت إصلاح المنظومة البنكية و المصرفية محاولة في أقلمتها مع أسلوب التخطيط المنتهج و نموذج التنمية المختار. و ما يمكن التأكيد عليه خلال هاته الفترة هو «تغيير قواعد تمويل النشاط بالإنتقال من تمويل ميزاني إلى تمويل غير ميزاني، و إعطاء أهمية رئيسية للخزينة العمومية في إحداث القرض و العملة»(16).
نسجل من خلال دراسة المنظومة البنكية و المصرفية في الجزائر بعض الخصوصيات التي تميزها عن غيرها من المنظومات المعروفة عبر العالم، وما يهمنا هنا هو العلاقة بين المنظومة من جهة و تمويل التصنيع من جهة أخرى.
يبدو أن دور الخزينة في تمويل التصنيع كان أساسيا حتى سنة 1970 ثم من خلال البنك الجزائري للتنمية (الذي إنبثق عن الصندوق الجزائري للتنمية) الذي إستمر في تمويل الإستثمارات مما يبرز خصوصية أخرى للمنظومة البنكية و المصرفية الجزائرية متمثلة في «إنتقال مهمة النظام البنكي إلى شبكة للخزينة»(17).
تطور المؤسسات البنكية و المالية الجزائرية 1962-1979 26-
بعد ستة أشهر من إستقلال الجزائر أنشأت البنك المركزي الجزائري، و في ماي 1963 تم إنشاء الصندوق الجزائري للتنمية بأرصدة صندوق التجهيز و التنمية الجزائري الموجود في العهد الإستعماري، و في أكتوبر 1963 تم نشر نظام التعرفة الجمركية الجديد، و في أفريل 1964 أنشأت الجزائر وحدتها النقدية المتمثلة في الدينار الجزائري الذي حددت قيمته بالنسبة للذهب (1دينار = 180 ملغ ذهب) ( 17 مكرر)، أما الصندوق الجزائري للتأمين و إعادة التأمين فقد أنشأ في أوت 1963، أما الصندوق الوطني للتوفير و الإحتياط فقد أنشأ في أوت 1964، بعد هاته المرحلة جاءت مرحلة إنشاء بنوك الودائع خلال سنتي 1966-1967 و هي البنك الوطني الجزائري، البنك الخارجي الجزائري، و القرض الشعبي الجزائري. كل هاته الإحراءات كانت تهدف إلى خلق شبكة بنكية و مالية إستهدفت ضمان إستقلالية القرار للسلطات الجزائرية،
و تمت المصادقة على قانون الإستثمار الجديد سنة 1966 الذي جاء ليعوض قانون الإستثمار لسنة 1963. «في سنة 1967، أي خمس سنوات بعد الإستقلال، و التي تصادف السنة الأولى للمخطط الثلاثي، أصبحت الجزائر تملك كل الأدوات التي تمكنها من ممارسة إستقلالها المالي و تطبيق سياسة مالية مستقلة تكون ضمانا لإستقلال الإختيارات في ميدان التنمية »(20). و يوحي كذلك بأن المسؤولين الجزائريين إعتمدوا سياسة خلق الإمكانيات لعملية التنمية و ليس القيام بتنمية حسب الإمكانيات المتاحة.
التطور التاريخي للمؤسسات المالية و المصرفية في الجزائر يعكس كذلك السياسة الإقتصادية المنتهجة. على الرغم من الجهود المبذولة في خلق شبكة مالية و بنكية قوية تمتد على كامل التراب الوطني قصد تقريب المصاريف من المواطن إلا أن الشبكة البنكية و المصرفية في الجزائر بقيت دون المستوى الذي تتطلبه تقنيات العصر من تحكم في التسيير المالي و المبادرات الإقتصادية و تمويل المشاريع المختلفة و كأن البنوك أصبحت عبارة عن مؤسسات إدارية عادية و ليست مؤسسات مالية تقوم على المبادرة و موازنة النفقات و الإيرادات باللجوء إلى تحسين الخدمات و تشجيع الإدخار و تحديث طرق التعامل مع الزبائن. لكن الحكم على المؤسسات البنكية و المصرفية هو حكم أيضا على السياسة المالية و النقدية المنتهجة خلال فترة المخططات و التي كانت تهدف، حسب رأينا، بالدرجة الأولى إلى خضاع كل القطاعات للدولة و جعلها في خدمة المخططات الطموحة، و ليس التركيز على ربحيتها و فعاليتها و مردوديتها.
أصبحت لدينا الأن فكرة واضحة على السياسة المصرفية والمالية والبنكية حلال الفترة 1962- 1979 .
لقد تحدثنا وقلنا بأن النموذج الجزائري للتنمية قد اعتمد أساسا على الصناعة، لكي نطلع على هذه السياسة الإقتصادية المنتهجة ننتقل إلى دراسة الإستثمارات الصناعية خلال الفترة 1967-1979.
الإستثمارات الصناعية خلال الفترة 1967-1979 -27
دراسة مصادر تمويل الصناعة الجزائرية تتطلب البحث و التطرق إلى معضلات تمويل التصنيع و ما ينتج عنها من تضخم و تبعية مالية و تقشف مفروض، و مصادر هذا التمويل سواءا كانت داخلية أو خارجية و كيفيات إستغلالها و إستعمالها بطريقة مرشدة أم أنه كان هناك تبذير للموارد و إذا كان هناك تبذير، محاولة معرفة أين وقع. نستهل الدراسة إبتداءا من سنة 1967 و هي السنة التي تصادف بعث المخطط الثلاثي. الوضع الإقتصادي و الإجتماعي و السياسي للمجتمع الجزائري غداة الإستقلال، إتسم بإختلالات متعددة. تدارك التأخر المسجل بإنتهاج سياسة تنموية طموحة مبنية على إختيار نموذج تنموي معتمد على الصناعات المصنعة و ممتص لمبالغ مالية مستثمرة كبيرة.
مصادر تمويل الإستثمار التقليدية كالإدخار المحلي و الجباية و التمويل الذاتي للمنشآت و إستعمال الموارد الطبيعية و مدى وزنها و دورها في تمويل التنمية مرت بمراحل متفاوتة و أحيانا متباينة. توجيه الإمكانيات المالية المتاحة، بنسب كبيرة، إلى قطاع الصناعة يكون حتما على حساب قطاعات أخرى لا تقل أهمية سواء من الناحية الإستراتيجية لضمان إستقلال إقتصادي منشود أو من ناحية تلبية الحاجيات الإستهلاكية المتزايدة لدى أفراد المجتمع و الناجمة عن نمو ديمغرافي وصل إلى أرقام قياسية عالمية و كذا الميل إلى الإستهلاك لتعويض فترات الحرمان و صرف كتلة الأجور التي ما فتئت تتعاظم مع مرور الزمن نظرا لمعدلات التشغيل المحققة.
عملية التصنيع لا تقتصر على إقامة مشاريع مستوردة مقابل تصدير موارد طبيعية، غالبا ما شكلت أهم مصادر التمويل، بل تتعدى ذلك إلى أبعاد متشابكة و متظافرة ذات تأثير متبادل على مستويات مختلفة إجتماعية، ثقافية، تقنية و تاريخية. إنها ليست مجرد عملية يمكن أن تقاس بالأحجام المتفاوقة للمبالغ المالية الموجهة للإستثمار أو بتعداد الوحدات الصناعية المقاومة أو عدد مناصب الشغل المتوفرة و الناتجة عن هاته العملية بل «التصنيع عملية ممكنة الإسترجاع، تضع في علاقة و في مجتمع ما الأفراد الحاملين لتصورات مضبوطة للعالم في إطار نظام للأشياء، يدخلون في تنافس لإنتاج سلم إجتماعي من خلال تغيير نظام الأشياء هذا»(20 مكرر).
بحث عن كيفيات تمويل الصناعة في الجزائر و محاولة إعداد ميزانية بما كلفته هاته العملية من جهة و ما شاركت به مصادر التمويل من جهة أخرى في فترة زمنية محددة يؤدي بنا إلى تدقيق و دراسة مختلف الجوانب المتعلقة بمصادر التمويل و مدى أهمية كل مصدر من المصادر، و معرفة فيما إذا أعتمد التمويل على المصادر الإنتاجية أم أعتمد على المصادر الريعية الإستخراجية و اللجوء إلى الإقتراض من السوق المالية الخارجية. و هل السياسة التصنيعية المنتهجة هي وليدة لتطور إجتماعي حركي كان فارضا لذلك أم إرادة فوقية نابعة من تصورات نظرية لتغيير هياكل المجتمع وفق إطار رسمت معالمه خارج المعطيات الحقيقية لواقع الجزائر في فترة زمنية معينة ؟. إن تتبع سيرورة عملية التنمية في الجزائر يوحي بأن المؤشرات تدل على أن القرارت المتخدة، تحت غطاء طموحات الشعب، إنما هي إرادة سياسة للمقررين الإقتصاديين الذين أرادوا أن يقفزوا بالمجتمع إلى مستويات عليا مقتنعين بأن أسلوب التنمية المتبع يمكن أن يحقق ذلك.
السياسة الإقتصادية المنتهجة من طرف الدولة الجزائرية و المعتمدة على الصناعات الثقيلة في إطار نظرية الصناعات المصنعة و القائمة على الصناعات الميكانيكية تكون بمثابة المحور الرئيسي الذي تدور حوله عملية التصنيع من جهة و الإعتماد عليها في جر بقية القطاعات الأخرى من جهة ثانية، من خلال تشابك قطاعي و تأثير متبادل بين القطاعات.
السياسات الإقتصادية للفترة 1966-1979.
يمكن تناول السياسات الإقتصادية الجزائرية خلال الفترة 1966-1979 من زاويتين: الزاوية الأولى تتعلق بالأطر النظرية التي اعتمد عليها نموذج التنمية الجزائري، والزاوية الثانية تتعلق بالنمزذج الجزائري للتنمية وإنجازاتة.
2-1-النموذج الجزائري للتنمية.
يقوم النموذج الجزائري للتنمية على ركائز يمكن تلخيصها فيما يلي:
أ- الركيزة الأولى تتمثل في سياسة استرجاع الثروات الوطنية وهو ما نلتمسه من سلسلة التأميمات التي قامت بها الجزائر.
ب- الركيزة الثانية تتعلق باختيار الجزائر للمنهج القائم على التخطيط المركزي، المخطط الثلاثي 1967-1969 ثم مخططين رباعيين 1970-1973 و 1974-1977 .
ت- الركيزة الثالثة تتمحور حول التصنيع، بمعنى الإرتكاز على إقامة صناعة قوية. السياسة الجزائرية ارتكزت على نموذج الصناعات المصنعة.
لكي نفهم أكثر طبيعة وفلسفة النموذج الجزائري ارتأينا أن نعرض معنى التصنيع ومكانته في نظريات التنمية وذلك على المستوى العاالمي قبل دراسة وتحليل لبنموذج الجزائري.
2-2- حركة التصنيع في العالم
عملية التنمية عملية معقدة تختلف من مجتمع لآخر نظرا للإختلافات في التاريخ و العادات و القيم الأخلاقية و الروحية و الإجتماعية، و الثقافات و السلوك الحضاري. الجدال الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية حول أهم و أقصر طريق لتحقيق معدلات نمو عالية و الخروج من دائرة التخلف و محاربة البؤس و الفقر، لم يتوج بإتفاق بين منظمي التنمية حول النموذج الأمثل الذي يجب إتباعه. هل الإعتماد على ترقية القطاع الزراعي ؟ أم الإعتماد على إنشاء قطاع صناعي قوي ؟ هل الإعتماد على الصناعات الثقيلة أم الإعتماد على الصناعات الخفيفة ؟ أم الإعتماد على قطاع الخدمات ؟، من أجل تحقيق تنمية عاجلة و سريعة خاصة في البلدان النامية و المستقلة حديثا.
البحث في مكانة التصنيع في عملية التنمية يقودنا إلى البحث عن تاريخ التصنيع في العالم ثم معرفة مكانة التصنيع في نظريات التنمية ثم مكانة التصنيع في النموذج التنموي الجزائري. هذا يسمح لنا بمعرفة المكانة التي حظي بها التصنيع و قطاع الصناعة و كذلك التأثيرات التي تكون قد أقنعت المسؤولين الإقتصاديين الجزائريين بالإستثمار المكثف في قطاع الصناعة، كما يسمح لنا من خلال الأحداث التاريخية المشار إليها من معرفة البلدان التي سبقت و إن إعتمدت على التصنيع و ما حققته من نتائج، و التي يمكن أن تكون المرجع الذي أدى بالجزائر أن تحذو حذوها.
البحث في تاريخ التصنيع يقودنا إلى القرن الثامن عشر لما عرف به من إختراعات و إكتشافات و كذلك ما إتفق على تسميته بالثورة الصناعية التي مرت بعدة مراحل، كانت بدايتها ثورة الحديد و الفحم و ما عرفته من تطورات خلال الفترة ما بين 1780و1850، تلتها مرحلة ثانية هي ثورة الفولاذ و الكهرباء خلال الفترة الممتدة بين 1850و1914.
الثورة الصناعية إرتبطت بقارة أوروبا، لكن الأمم الأروبية لم تعرف التصنيع في آن واحد بل كان التطور متباين و بوتيرة مختلفة من دولة لأخرى.
إنجلترا تعرف بمعهد الثورة الصناعية، على الرغم من إختلاف المؤرخيين في تاريخ بداية التطور الصناعي بهذا البلد (بين 1740 و السنوات الأولى للقرن الثامن عشر) إلاأنها تعتبر سباقة في هذا الميدان، بينما تأخر جزء من البلدان الأروبية حتى 1914، لكن التصنيع في أوروبا أصبح أمرا واقعيا قبل 1900 (1).
ظهور الصناعة في إنجلترا ثم في فرنسا ثم في بلجيكا ثم في ألمانيا، التي تطورت الصناعة فيها بشكل سريع خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، عمقت الفجوة بين أوروبا و باقي القارات مما أعطى لهاته القارة قوة إقتصادية أستغلت إستغلالا أمثلا في التوسعات الأوروبية إتجاه مختلف مناطق العالم قصد السيطرة على المواد الأولية و الثروات الطبيعية. باقي الدول الأوروبية تطورت بها الصناعة هي أيضا، لكن بدرجات متفاوتة كالنمسا و إسبانيا و البرتغال و إيطاليا و اليونان.
الولايات المتحدة الأمريكية تطورت بها الصناعة بشكل سريع و أصبحت منافسا قويا للدول الأوروبية. أما الإتحاد السوفياتي سابقا فقد خطى خطوات عملاقة في ميدان الصناعة خاصة بعد إنتهاجه لنظام تخطيط دقيق بعد سنة 1928 . مما سمح له أن يحتل الصف الثاني بعد الولايات المتحدة الأمريكية، كثاني دولة صناعية في العالم، مخلفا وراءه كلا من ألمانيا و إنجلترا على الرغم من أنه كان يعتبر البلد الأكثر تأخرا في ميدان الصناعة عشية الحرب العالمية الثانية(2).
هنا تكمن العلاقة بين التطور السريع في ميدان الصناعة و إحتلال المرتبة الثانية و الدخول في تنافس مع البلدان السباقة في ميدان التصنيع من جهة و التخطيط الدقيق المنتهج من جهة أخرى، مع الإشارة بأن الصناعة ظهرت في روسيا في القرن التاسع عشر و لكن بوتيرة بطيئة.
بالإضافة إلى سيرورة التصنيع في بلدان أوروبا و الولايات المتحدة الأمريكية فإن مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية تعتبر مرحلة التكتلات الكبرى كتأسيس المنظمة الأروبية للتعاون الأقتصادي و التي كان دورها الأول هو تطبيق برنامج المساعدة "مخطط مارشل" و ذلك في سنة 1948، تلتها مباشرة، في 25 جانفي 1949، تأسيس مجلس المساعدة الإقتصادية المتبادلة (كوميكون) والذي يبرز كهيئة للتعاون الإقتصادي لمختلف الدول الإشتراكية ملتفة حول الإتحاد السوفياتي.
ظهور معالم لتكتل محايد بباندوق في 1955، بلورت فيما بعد فكرة عدم الإنحياز و إنضمام العديد من الدول المستقلة حديثا إليها .
مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية إتسمت أيضا ببروز حركات التحرر وإرادة الشعوب في التحرر في القارات الثلاث (إفريقيا، أسيا، أمريكا اللاتينية ). إنتصار الثورة الصينية سنة 1945، كوريا سنة 1954، مصر سنة 1956، كوبا سنة 1959 و الجزائر سنة 1962(3) و تجسيد إرادة الشعوب في تقرير مصيرها. العامل المشترك بين إنتصار الثورات و الحركات التحررية في مختلف مناطق العالم هو مبدأ النظام الشعبي في الحكم.
إذا كان الوضع الدولي قد إتسم بما سبق عرضه فإن إستعراض أهم نظريات التنمية و مكانة التصنيع فيها يعطينا فكرة عن محيط الفكر الإقتصادي السائد حتى فترة الستينيات.
2-3- مكانة التصنيع في أهم نظريات التنمية
عملية التنمية مرتبطة بتشابك العمليات الإقتصادية و السياسية و الإجتماعية. الإقتصاديون، عند تناولهم لقضايا التنمية، تطرقوا إلى مختلف العوامل التي يمكن أن تؤثر فيها أو عليها و التنمية عملية معقدة، مختلفة الجوانب، متعددة الأطراف.
نحاول فيمايلي إستعراض بعض النظريات التي تناولت التنمية.
النظرية الماركسية إفترضت أن نموذج المجتمعات المصنعة يمكن تطبيقه لاحقا في مجتمعات أخرى، أما روستو فقد حدد مراحل النمو بخمسة مراحل (المجتمع التقليدي، إجتماع ظروف الإنطلاق، الإنطلاق، النضج، مرحلة الإستهلاك الكتلي)(4). التصنيع في نظر روستو يبدأ في المرحلة الثالثة (الإنطلاق).
بعد الحرب العالمية الثانية إنقسمت النظريات الإقتصادية إلى الإتجهات الأتية :
1- نظرية النمو المتوازن في خضم التيار الكينزي .
2- نظرية التنمية، بدءا بأعمال أرتيرلويس (ARTHUR LEWIS)، التي إنبثقت عنها النماذج التي يمكن تلخيصها فيما يلي : (5)
أ- نموذج التنمية بتصدير الموارد الطبيعية.
ب- نموذج التنمية بإحلال الواردات.
جـ- نموذج التنمية بالصادرات الصناعية.
3- نظرية النمو الغير متوازن (هيرشمان (HIRSCHMAN.
4- ظرية التنمية القطبية.
5- نظرية الدفع الكبير ( BIG PUSH).
كل نظرية من النظريات السابقة بلورت نموذجا من نماذج التنمية الذي يمكن إعتماده لتقدير مجتمع ما كمحاولة للإجابة عن السؤال الرئيسي الذي كان دائما يطرح في أدبيات التنمية الإقتصادية و المتعلق بهل البلدان المتخلفة إقتصاديا مضطرة للمرور بجميع مراحل التطور الرأسمالي أم أن هناك طريق مختصر يمكن من تحقيق تنمية في المجتمع دون إنتظار المرور بجميع المراحل التي سبقت التطور الرأسمالي ؟.
نحاول أن نبحث مكانة التصنيع في نظريات التنمية بعد عرض الإتجاهات الرئيسية للنظريات الإقتصادية التي إهتمت بمواضيع التنمية.
إن الجدال التقليدي الذي ساد بين منظري التنمية تعلق بالمفاضلة بين قطاع الزراعة و قطاع الصناعة و بين فرع الصناعات المنتجة لوسائل الإنتاج وفرع الصناعات المنتجة لوسائل الإستهلاك و بين القطاعين و قطاع الخدمات أو بالإعتماد على قطاع الزراعة و قطاع الصناعة معا (*5 مكرر).
ظهور إقتصاديات التخلف و الإهتمام ببلدان العالم الثالث و مناهج تنمية هاته البلدان للوصول إلى مستوى تطور البلدان المتقدمة صناعيا، ركزت على التصنيع كمؤشر رئيسي من بين المؤشرات التي تؤخذ لقياس مستوى تنمية بلد ما.
ضعف التصنيع أعتبر خاصية البلدان المتخلفة لدرجة أنه أصبح يعتقد أن مصطلح عالم ثالث مرادف لعدم التصنيع، والتنمية تعني التصنيع (6).
دراسة النماذج التنموية الصناعية من حيث تطورها التاريخي و تسلسلها، و إستعراض النماذج التي إهتمت بالتصنيع، يقودنا إلى سنة 1958عندما ظهر نموذج ولتر هوفمان(WALTER HOFFMAN) و الذي ركز على صناعة السلع الإستهلاكية في المرحلة الأولى ثم الإهتمام بصناعة السلع الرأسمالية (biens capitaux) في المرحلة الثانية تلته نماذج العديد من الإقتصاديين(7) أمثال شينري (CHENRY)، و تايلور (TAYLOR)، و تمين(TEMIN)، و سيركين(SYRQUIN)، و جاميسون (JAMISON)، و كادير(KADER) ، و نموذج الأمم المتحدة الذي برز من خلال بحث التنمية الصناعية و تعريفها للتصنيع و ذلك سنة 1963.
النماذج التي إهتمت بقطاع الصناعة كوسيلة للتنمية أبرزت مزايا التصنيع التي يمكن تلخيصها فيمايلي :
1- خلق أقطاب التنمية.
2- التصنيع كشرط لإنتشار التقدم التقني.
3- التصنيع يسمح بالتحولات الأولية للهياكل الإقتصادية و الإجتماعية.
4- التصنيع يساهم في ربط الإقتصاد.
5- التنمية الصناعية تضمن توازن إقتصادي جيد.
هاته المزايا لم تخلو من إبراز الصعوبات التي تواجه عمليات التصنيع و التي تختلف من بلد إلى آخر كندرة رأس المال و ضيق الأسواق و تواجد ثنائية إقتصادية، و دور القطاع العام و القطاع الخاص و ندرة اليد العاملة المؤهلة، بالإضافة إلى الجوانب الثقافية للمجتمعات و سلوك الفرد إتجاه الآلة. أي الذهنيات فيما إذا كانت متطورة و مسايرة للتقدم التقني أم متخلفة عنه ورافضة له.
حاولنا فيما سبق أن نكون إطارا للظروف التي أحاطت و التي تكون قد أثرت في إختيار نموذج التنمية في الجزائر بعد 1967، لإيجاد أسس مرجعية و مبررات هذا الإختيار من دون إختيار نماذج أخرى.
دور الجزائر و مكانة ثورتها و طبيعة إستراتيجية تنميتها أهلتها لجلب أنظار المهتمين بنظريات التنمية من جهة و بلورة فكرة عدم الإنحياز من جهة أخرى، هذه الحركة (أي عدم الإنحياز) التي أبرزت، من خلال برامجها، إتجاهين رئيسيين لعمليات التصنيع في مختلف دوراتها : الجزائر 1973، ليما 1975، كولمبو 1976 (Cool.
الإتجاه الأول إرتكز على تنظيم التصنيع في خدمة التنمية الزراعية و سعادة الشعب، أما الإتجاه الثاني فقد إرتكز على التصنيع المستقل الموجه للداخل.
إن الأفكار الإقتصادية الواردة في مختلف نظريات التنمية -كما ذكرنا- ركزت بشكل كبير على الصناعة، ناهيك عما حققته الدول التي سبقت و إنتهجت النماذج المبنية على قطاع الصناعة لذا فإننا إذا أردنا أن نبحث عن مبررات إختيار النموذج الجزائري للتنمية فإنه من البديهي أن نستنتج بأن الحديث عن الصناعة كضرورة حتمية عن التنمية يكون قد أبهر متخذي القرار الإقتصاديين و أقنعهم بأن لا تنمية بدون صناعة. و هو مايلاحظ عند جميع الشعوب المستقلة حديثا التي طمحت لتحقيق تنمية بإنشاء قطاع صناعي قوي.
لكي نتعرف على مكانة التصنيع في نموذج التنمية الجزائري نتناوله بالبحث في الفقرات الموالية.
2-4- مكانة التصنيع في نموذج التنمية الجزائري
المشاكل التي تواجه الحكومات، بعد إستقلال بلدانها، مشاكل معقدة، صعبة، متشابكة، متشعبة الإبعاد، نتيجة الظروف الإقتصادية و الإجتماعية التي تطبع البلد المستقل و التي توصف بالصعبة و بالمتدهورة من جهة و نشوء الصراعات بين مختلف القوى الضاغطة على تولي الحكم و نتظيم شؤون الدولة من جهة أخرى.
دور الصناعة و أهمية التخطيط بديا بوضوح مع بعث المخطط الثلاثي 1967-1969 و الذي كان بمثابة تطبيق لما ورد في بيان مجلس الثورة (جوان 1965) و أبرز المعالم الأولى لنموذج التنمية الذي سيتضح فيما بعد.
المهتمون بإقتصاد الجزائر أثناء تناولهم لتجربة الجزائر التنموية يصنفون النموذج التنموي الجزائري تحت تسمية نموذج الصناعات المصنعة الذي إرتبط بالإقتصاديين فرانسوا بيروا و ديستان ديبرنيس (G.DESTANE DE BERNISet F.PERROUX ) (9). هذا النموذج أعتمد على إقامة صناعات ثقيلة تقوم بجر بقية الفروع و القطاعات.
البلدان المستقلة حديثا تواجهها صعوبات عدة في إختيار نموذج التنمية، هذه الصعوبات هي من طبيعة و تعقيد عملية التنمية نفسها.
إختيار النموذج التنموي تواجهه المفاضلة بين إنشاء القاعدة الأساسية للبلاد و مكانة الزراعة في التنمية و إختيارات التنمية الصناعية. (10) بالإضافة إلى طبيعة و ثروات البلاد التي كثيرا ما لعبت دورا تأثيريا في إختيار نموذج التنمية.
أثناء دراستنا و تحليلنا و إستعراضنا للنصوص المرجعية و تاريخ التصنيع و نظريات التنمية في العالم لغاية عشرية الستينيات كان بإمكاننا أن نتصور النموذج الجزائري وفق المعالم المستنتجة من الدراسة، بأنه نموذج قد يعتمد على :
- التجميع و المشاركة (Socialisation).
- الديمقراطية من خلال مساهمة الفلاحين و العمال في القرار الإقتصادي.
- التخطيط.
- عالم الريف و الزراعة.
- الإختلاف عن المناهج المتبعة في بقية البلدان (مبدأ الخصوصية).
- القطيعة مع نماذج المستعمر.
- الأخذ بعين الإعتبار تجارب الشعوب المستقلة في التنمية.
تجسيد هذه المحاور في نموذج تنموي نابع من النصوص المرجعية يكون مطابقا تماما مع ما ورد في وثائق الثورة الجزائرية ( هذا بعد إطلاعنا على كل الوثائق المتعلقة بالثورة الجزائرية و كذلك ميثاق الجزائر 1964). لكننا نلاحظ أن الإرادة السياسية لدى متخدي القرار الإقتصاديين الجزائريين كانت تبحث عن نموذج طموح متميز محايد و مختلف عن النماذج التنموية التي يمكن التذكير بها فيما يلي :
1- النماذج التنموية التي تعتمد على الصناعات المنتجة لوسائل الإنتاج.
2- النماذج التنموية التي تعتمد على الصناعات المنتجة لمواد الإستهلاك.
3- النماذج التنموية التي تعتمد على الزراعة و الصناعة في آن واحد بنسب معينة.
إختيار نموذج الصناعات المصنعة، الذي يبدو متكاملا و متوازنا من الناحية النظرية، لكونه يعطي إطارا لتنمية البلاد في جميع الميادين، و يبرز الدور الريادي الذي أوكل للصناعات الأساسية الثقيلة التي تؤثر على الصناعات الخفيفة لتجرها إلى التطور و النمو و تؤثر على قطاع الزراعة بإمداده بوسائل إنتاج حديثة تكون سببا في تطوير الزراعة و تحديثها ثم تسيير القطاعات متأثرة فيما بينها لخلق ديناميكية حيوية و نشطة في عملية التنمية، جسد هذا التصور في إطار ما عرف «بتسويد مصفوفة التبادل القطاعي».
عرض النموذج و تحليله من الناحية النظرية يوعد بالكثير فهو يلبي الأغراض و يحقق الطموحات، يعتمد على التخطيط و يرتكز على الصناعات الثقيلة دون إهمال الصناعات الخفيفة، يهتم بقطاع الصناعة و في نفس الوقت يهدف إلى تطوير قطاع الزراعة، يضمن الحياد بإبرازه كتجربة رائدة في العالم الثالث، و يهدف إلى توجيه الإقتصاد للداخل و كسر العلاقات التقليدية مع المستعمر.
التحليل من الناحية الفنية للنموذج يجعلنا نتساءل عن الأسباب التي حرضت على إختيار هذا النموذج. فهو يعتمد على مستوى تكنولوجي عال في إنشائه للمؤسسات الصناعية التي تتطلب كثافة رأسمالية عالية و هذا يضع المقرر الإقتصادي أمام معادلة صعبة الحل. نظرا لندرة رؤوس الأموال و المستوى العالي للبطالة إذا إفترضنا أن من بين أولويات التنمية هي القضاء على البطالة و إمتصاص أكبر عدد ممكن من اليد العاملة المتاحة و العاطلة، هذا الإختيار يبرر بكون الجزائر تحتوي على مورد طبيعي من أهم الموارد متمثل في المحروقات التي تستغل و تصدر لتكون مصدرا مهما لتمويل التنمية، هنا أيضا تواجه المقرر الإقتصادي معادلة أخرى صعبة الحل و تكمن في كون الصناعات المصنعة كان يهدف من ورائها توجيه الإقتصاد للداخل لكن إستغلال المحروقات و تصديرها هو نتيجة حتمية لتوجيه هذا النشاط للخارج.
الإعتماد على الإمكانيات الطبيعية بإستغلال المحروقات و تصديرها لإيجاد وسائل دفع ضرورية لتمويل عملية التنمية و إعتبارها القاعدة الأساسية للتراكم،(11) يجعل من الإقتصاد الجزائري إقتصادا جد متخصصا في تقسيم العمل الدولي.
إذا إفترضنا أن المحروقات قد أعتبرت المورد الأساسي للتمويل الخارجي الذي يبرز كحتمية طبيعية في أية عملية من عمليات التنمية، نظرا لعدة اسباب، من بينها شروط التعامل مع الموردين و ضرورة اللجوء إلى السوق الدولية لإقتناء الحاجيات اللازمة سواءا كانت المصانع نفسها في إطار العقود المبرمة مع الشركات الأجنبية، مهما كانت طبيعة العقد "مفتاح في اليد" أو "منتوج في اليد"، أو المواد الإستهلاكية الغير منتجة على المستوى الوطن، فإن التقديرات المتعلقة بالمداخيل من العملة الصعبة تصبح محكومة بالعوامل الأتية :
- الإحتياطي المؤكد و الإحتياطي المحتمل من المحروقات (12).
2- حجم المحروقات المستخرج و المصدر.
3- سعر البرميل الواحد المباع.
لكون الإحتياطي يوجد في باطن الأرض فإن العامل الثاني و العامل الثالث هما العاملان الأساسيان المؤثران في مبالغ العائدات من تصدير المحروقات.
لو أردنا أن نمثل مبالغ العائدات في شكل معادلة رياضية فيمكن تصورها كمايلي :
Y= F (P.QU)
حيث Y هي مبالغ العائدات مقابل تصدير المحروقات.
P هو سعر الوحدة الواحدة من المبيعات.
QU هي الكمية المباعة.
يبدو واضحا من هذه المعادلة بأن كل تغير في حجم مبالغ العائدات مرتبط بالتغيير في سعر الوحدة المباعة أو الكمية المباعة أو الإثنين معا. هنا تتبادر إلى الذهن عدة تساؤلات من بينها : ماهي الضمانات التي كانت لدى المسؤولين الجزائريين للتحكم في حساب المبالغ المالية المتاحة في ظروف إقتصادية تحكمها وضعية السوق الدولية و الشركات الكبرى ؟ كيف يمكن التأكد من الطلب على المحروقات و بأسعار محددة في ظل المنافسة الناتجة عن تعدد البلدان المنتجة للنفط؟
هذا الوضع أدى بالجزائر و دفعها للعب الأدوار الأساسية فيما سمي بمعركة النفط و فيما بعد معركة المواد الأولية (12 مكرر)* التي نتجت عنها ثلاث قضايا رئيسية :
1- تأميمات البترول و الثروات الباطنية.
2- دور الجزائر داخل منطقة الأوبيك و الأوابيك.
3- المطالبة بنظام إقتصادي عالمي جديد.
الإعتماد على المحروقات بالدرجة الأولى في تمويل التنمية يجعلنا نتساءل أيضا عن هذا الإختيار: هل كان ناتجا عن عدم وجود مصادر أخرى للتمويل؟ هل نفذت كل المصادر المتاحة ؟ هل عبئت كل الإمكانيات المتاحة من إدخار محلي و إستعمال عقلاني للموارد ؟
سنتناول هذه المحاور بالبحث في الفصول القادمة و سنعرف دور كل مصدر من المصادر التمويلية في تمويل التنمية.
يمكن أن نستنتج مماسبق أن طابع الخصوصية قد ميز نموذج التنمية الجزائري الذي يبدو أنه يعكس طموحات سياسية كبيرة أكثر مما يعكس مستوى نضج الأفكار الإقتصادية التي تتطلب الترشيد و العقلنة لدى المقررين الإقتصاديين، سواءا كان نموذج التنمية الجزائري مستمد من نظريات الإقتصادي الروسي فيلدمان (13) FIELDMAN فيما يتعلق بالإختيار التكنولوجي أو معتمد أساسا على أقطاب النمو لما عرف عند فرانسوابيرو و في إطار نظرية التنمية القطبية أو تطبيقا لنظرية الصناعات المصنعة لديبارنيس فإن إختيار هذا النموذج يعكس، في راينا الأفكار الأتية :
1- توحي دراسة النموذج بأنه متوازن و واعد بتنمية قوية و سريعة و شاملة.
2- يوحي بأنه مستمد من النصوص المرجعية بأعتماده على التخطيط خاصة و أن النصوص المرجعية للثورة الجزائرية لم تحدد بوضوح تام طبيعة النظام الإقتصادي الذي سينتهج بعد الإستقلال، هذا الوضع سمح للمقررين الإقتصاديين أن يقدموه كمطلب شرعي سيستند أساسا إلى ما تم الإتفاق عليه في مختلف الوثائق و هذا ما يبرز من خلال الخطب السياسية التي كانت تركز دائما على أن القرارات الإقتصادية لها مستند أساسي يتمثل في مواثيق الثورة الجزائرية.
3- النموذج يوحي بأنه يوجه الإقتصاد للداخل و بالتالي يكسر العلاقات التقليدية مع المستعمر التي كانت تتسم بتوجيه الإقتصاد الجزائري للخارج.
4- يضمن مبدأ الحياد و عدم الإنحياز الذي سجل كمبدء أساسي للجزائر، هذا مايستنتج من خصوصية النموذج و طبيعته و صعوبة مطابقته تماما مع النماذج التنموية المعتمدة في بلدان أخرى.
5- يعكس الطموحات السياسية في إبراز دور الجزائر القيادي في التحرر على جميع الأصعدة.
إذا كانت هناك نتيجة يمكن إستنتاجها من الدراسة السابقة حول إختيار نموذج التنمية الجزائري و طبيعته فإنه يصعب علينا أن نجزم بأن الإختيار تأثر بفكرة دون أخرى و هذا نابع من طبيعة النموذج. فإذا إعتمدنا على ماورد في وثائق الثورة الجزائرية و ميثاق الجزائر 1964 فإن النموذج لا ينطبق تماما مع ماورد في هذه الوثائق لأن الصناعة لم يتم التركيز عليها إطلاقا في حين أن الأهمية القصوى أعطيت للزراعة، لكن مبدأ التجميع و المشاركة (الواردين في مواثيق الثورة) تم تجسيدهما من خلال الفكر الإيديولوجي. عرض نظريات التنمية يجعلنا نتساءل عن إختيار النموذج، لماذا لم يكن مطابقا تماما لإحدى النظريات أو احد المناهج المعروفة لغاية بداية الستينيات ؟
إن دراستنا لنموذج التنمية الجزائري يوحي لنا و كأن المسؤيلين الجزائريين كانوا يبحثون عن نموذج تنفرد به الجزائر و يحقق تنمية سريعة. فإذا كانت هذه عبارة عن طموحات إقتصادية فهل كانت الشروط متوفرة لهذا النموذج من أجل نجاحه ؟ أما إذا كانت طموحات سياسية مبنية على رؤى للمجتمع الجزائري من خلال تنميته إقتصاديا فإننا نطرح إشكالية الطموح السياسي عند تصادمه مع التقنيات الإقتصادية، التي من المفروض أن تؤخذ بعين الإعتبار في كل خطوة إقتصادية قصد تحقيق المردودية القصوى و أعلى مستوى من المنفعة ؟
يمكن لنا إذا رجعنا إلى الوراء و حاولنا تصور الظروف المختلفة التي أحاطت بإتخاذ القرار بإختيار هذا النموذج، مكننا أن نلتمس من نتائج الدراسة أن فترة الستينيات، نتيجة تصعيد حركات التحرر و إستقلال الشعوب، أصبحت الأنظمة السياسية المختارة عبارة عن أنظمة شعبية. لأن كل بلد مستقل حديثا يريد كسر العلاقات التقليدية بينه و بين نظام البلد الذي إستعمره، و لكون البلدان المستعمرة هي بلدان رأسمالية فإن البلدان المستقلة حديثا تكون قد وجدت في النظام الإشتراكي ملجئا يحقق طموحها. الإتحاد السوفياتي و ما تلاه من أنظمة إشتراكية قدمت تجربة التنمية بالإعتماد على الصناعة كأنها التجربة المثلى.
متحذ القرار الجزائري أراد أن يبرز عدم تأثره بنظام دون الآخر و هذا ما نستشفه من خصوصية النموذج التنموي الجزائري الذي وجد في الصناعات المصنعة طريقا يوصله إلى تحقيق الطموحات السياسية و الإقتصادية.
ن البحث عن مبررات إختيار هذا النموذج -بتحليل بعدي- بعدما أصبحت النتائج ممكنة التقويم يصعب لنا الحكم على نموذج بأنه صالح أو غير صالح لكنه يبدو مدعما بمبررات لصالح إختياره دون ضمان نتائجه. التركيز على قضية نضج الأفكار الإقتصادية لدى القررين السياسيين عند إتخاذ أي قرار إقتصادي، لأن ضمان نجاح عملية التنمية يكمن في ضمان الإختيار السليم للنموذج الذي ينبع من واقع المجتمع و مستوى تطوره و تقدمه و ليس من أفكار يمكن أن تكون مرفوضة من طرف المجتمع، ليس لكونها غير سليمة و لكن لكون العوامل الثقافية و التاريخية و الإقتصادية غير مهيأة لتكريس الإختيار و إنجاحه.
لا نريد هنا أن نحكم مسبقا على نجاح أو فشل نموذج التنمية الجزائري لكون أدوات التقويم تختلف من باحث لآخر. مانراه نتيجة إيجابية يمكن أن يظهر كنتيجة سلبية عند باحث آخر و العكس صحيح. لكننا سنحاول أن نقارن أهداف النموذج التنموي التي رسمت له وقت إختياره و النتائج التي تحققت من خلال دراسة نتائج السياسة الإقتصادية. و عندها مقارنة النتائج بالأهداف و بالتالي إبداء الرأي و الحكم على نجاح أو فشل النموذج التنموي في تحقيق أهداف التنمية المرسومة له.
لقد اطلعنا الأن على الجوانب النظرية التي مكنتنا من معرفة الإتجاهات النظرية التي سادت العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وهذا ما يجعلنا نتعرف أكثر على المحيط الدولي العام. فيما يلي ندرس القرارات المتعلقة باسترجاع الثروات الوطنية. أول هذه القرارات يتعلق بالمنظومة المصرفية والمالية.
2-5- النظام النقدي و المصرفي الجزائري خلال الفترة 1966-1979
فعالية النشاطات الإقتصادية مرتبطة بشكل كبير بالنظام المصرفي و المالي و البنكي و النقدي و مدى ملاءمته مع التطورات و التغيرات التي تعرفها مختلف القطاعات، و كذلك مدى قدرته على تعبئة الإمكانيات التمويلية المتاحة و وضعها في إطارها المنظم لتحريك دواليب الإقتصاد عموما و قطاع الصناعة بشكل خاص. قوة المصارف و صحتها المالية دليل على قوة الإقتصاد و صحته.
البلدان المستقلة حديثا تواجهها صعوبات كبيرة عند مباشرتها لعملية التنمية لما تعتريها من عوائق تتعلق بإيجاد مصادر لتمويل الإستثمار «لإعطاء التنمية ديناميكية داخلية حقيقية، يجب بادئ ذي بدء ضمان الحد الأقصى لها من التمويل الداخلي، اللجوء إلى التمويل الخارجي ملزم لكنه يجب أن لا يخضع للمهم»(14).
النظام النقدي و المصرفي و البنكي في الجزائر مر بعدة مراحل، ففي المرحلة التي سبقت سنة 1966، تميز بتواجد قطاعين ماليين، قطاع عمومي و قطاع خاص متشكل أساسا من البنوك الفرنسية. لكن هاته الفترة (1962-1966) عرفت بالنقص الملحوظ للهياكل البنكية نتيجة أفعال عدد كبير من الشبابيك التابعة للقطاع الخاص. من بين 461 شباك موجود قبل الإستقلال عبر التراب الوطني، لم يبق سوى 128 (15) شباك مما أثر سلبا على تشغيل نقدي و تشغيل مالي عاديين.
إعتماد وتيرة تنموية طموحة في ظل نظام بنكي و مالي غير ملائم، و سياسة نقدية و قرضية غير مسايرة يشكل عائقا في وجه كل سيرورة تنموية.
تأميم البنوك و تجميعها و تحديد و تخصيص نشاطها كان بمثابة عملية محاولة التحكم في الأدوات المصرفية لإرصاء القواعد الأساسية لنظام بنكي يتماشى مع طموحات التنمية التي برزت معالمها مع بعث المخطط الثلاثي 1967-1969.
الجدول رقم1يبين لنا كيفية تجميع مختلف المؤسسات البنكية التابعة للقطاع الخاص في بنوك جزائرية وطنية عمومية تكفلت و تخصصت بتمويل الأنشطة و تسيير الأرصدة و مسك الحسابات.
جدول رقم 01– عملية تجميع المؤسسات المالية وانشاء بنوك عمومية جزائرية خلال الفترة 1966-1968
البنك المنشأ
المؤسسات المصرفية المجمعة
تاريخ التجميع
البمك الوطني الجزائري
1-07-1967
- القرض العقاري الجزائري التونسي
- القرض الصناعي والتجاري
- البنك الوطني للتجارة والصناعة
1-07-1966
1-07-1967
1-01-1968
القرض الشعبي الجزائري
19-12-1966
- البنك الشعبي التجاري والصناعي للجزائر
- البنك الشعبي التجاري والصناعي وهران
- البنك الشعبي التجاري والصناعي قسنطينة
- البنك الشعبي التجاري والصناعي عنابة
- البنك الشعبي للقرض الشعبي للجزائر
- بنك الجزائر مصر
- الشركة المرسيلية
29-12-1966
29-12-1966
29-12-1966
29-12-1966
29-12-1966
01-01-1968
30-06-1968
البمك الخارجي الجزائري
12-09-1967
- القرض الليوني
- الشركة العامة
- بنك باركلي
- البنك الصناعي الجزائر والمتوسط
- قرض الشمال
12-09-1967
16-01-1968
20-04-1968
26-05-1968
31-05-1968
هاته البنوك الأولية (الإبتدائية) ليست وحدها في المنظومة البنكية و المصرفية الجزائرية، لكنها تتشابك في عمليات يومية بينها و بين المؤسسات المالية الأخرى، تربطها علاقات مع البنك المركزي و كذا البنك الجزائري للتنمية و هاته الأخيرة لها علاقات وظيفية مع الخزينة العمومية التي بدورها ترتبط في علاقات تقليدية مع البنك المركزي.
لكي تتولد لنا فكرة عن العلاقات الوظيفية بين مختلف المؤسسات المالية و المصرفية يمكن لنا أن نطلع على الشبكة الكلية الناجمة عن إنشاء البنوك الأولية السابقة الذكر و دخولها في علاقات متبادلة مع المؤسسات الأخرى (البنك المركزي، الخزينة العمومية، البنك الجزائري للتنمية). الشكل رقم 1 يوضح لنا هذه العلاقات و الوظائف.
شكل رقم 1
شبكة المؤسسات المالية و المصرفية و البنكية في الجزائر
و وظائفها في بداية عشرية السبعينيات.
من خلال الشكل رقم 1 يمكننا أن نتعرف على الدور الذي أنيطت به المؤسسات المالية و من خلاله تتحكم الدولة في توجيه الأنشطة الإقتصادية و تمويلها.
تطور النظام البنكي و المصرفي في الجزائر ساير مختلف المراحل التي عرفتها سيرورة التنمية الإقتصادية، و يمكننا أن نقسم هاته المراحل إلى الفترات التالية :
الفترة الأولى : تمتد من 1962 إلى 1967، تميزت هذه الفترة بإستمرار الوظائف التقليدية للنظام البنكي و المصرفي الموروث عن الإستعمار.
الفترة الثانية : تمتد من 1967 إلى 1971، و هي الفترة التي عرفت تأميم البنوك و إنشاء بنوك جزائرية مع تخصصها في أنشطة محددة و هي محاولة إرساء شبكة بنكية تماشيا مع المتغيرات الجديدة.
الفترة الثالثة : تمتد من 1972 إلى 1978/1979، و هي الفترة التي عرفت إصلاح المنظومة البنكية و المصرفية محاولة في أقلمتها مع أسلوب التخطيط المنتهج و نموذج التنمية المختار. و ما يمكن التأكيد عليه خلال هاته الفترة هو «تغيير قواعد تمويل النشاط بالإنتقال من تمويل ميزاني إلى تمويل غير ميزاني، و إعطاء أهمية رئيسية للخزينة العمومية في إحداث القرض و العملة»(16).
نسجل من خلال دراسة المنظومة البنكية و المصرفية في الجزائر بعض الخصوصيات التي تميزها عن غيرها من المنظومات المعروفة عبر العالم، وما يهمنا هنا هو العلاقة بين المنظومة من جهة و تمويل التصنيع من جهة أخرى.
يبدو أن دور الخزينة في تمويل التصنيع كان أساسيا حتى سنة 1970 ثم من خلال البنك الجزائري للتنمية (الذي إنبثق عن الصندوق الجزائري للتنمية) الذي إستمر في تمويل الإستثمارات مما يبرز خصوصية أخرى للمنظومة البنكية و المصرفية الجزائرية متمثلة في «إنتقال مهمة النظام البنكي إلى شبكة للخزينة»(17).
تطور المؤسسات البنكية و المالية الجزائرية 1962-1979 26-
بعد ستة أشهر من إستقلال الجزائر أنشأت البنك المركزي الجزائري، و في ماي 1963 تم إنشاء الصندوق الجزائري للتنمية بأرصدة صندوق التجهيز و التنمية الجزائري الموجود في العهد الإستعماري، و في أكتوبر 1963 تم نشر نظام التعرفة الجمركية الجديد، و في أفريل 1964 أنشأت الجزائر وحدتها النقدية المتمثلة في الدينار الجزائري الذي حددت قيمته بالنسبة للذهب (1دينار = 180 ملغ ذهب) ( 17 مكرر)، أما الصندوق الجزائري للتأمين و إعادة التأمين فقد أنشأ في أوت 1963، أما الصندوق الوطني للتوفير و الإحتياط فقد أنشأ في أوت 1964، بعد هاته المرحلة جاءت مرحلة إنشاء بنوك الودائع خلال سنتي 1966-1967 و هي البنك الوطني الجزائري، البنك الخارجي الجزائري، و القرض الشعبي الجزائري. كل هاته الإحراءات كانت تهدف إلى خلق شبكة بنكية و مالية إستهدفت ضمان إستقلالية القرار للسلطات الجزائرية،
و تمت المصادقة على قانون الإستثمار الجديد سنة 1966 الذي جاء ليعوض قانون الإستثمار لسنة 1963. «في سنة 1967، أي خمس سنوات بعد الإستقلال، و التي تصادف السنة الأولى للمخطط الثلاثي، أصبحت الجزائر تملك كل الأدوات التي تمكنها من ممارسة إستقلالها المالي و تطبيق سياسة مالية مستقلة تكون ضمانا لإستقلال الإختيارات في ميدان التنمية »(20). و يوحي كذلك بأن المسؤولين الجزائريين إعتمدوا سياسة خلق الإمكانيات لعملية التنمية و ليس القيام بتنمية حسب الإمكانيات المتاحة.
التطور التاريخي للمؤسسات المالية و المصرفية في الجزائر يعكس كذلك السياسة الإقتصادية المنتهجة. على الرغم من الجهود المبذولة في خلق شبكة مالية و بنكية قوية تمتد على كامل التراب الوطني قصد تقريب المصاريف من المواطن إلا أن الشبكة البنكية و المصرفية في الجزائر بقيت دون المستوى الذي تتطلبه تقنيات العصر من تحكم في التسيير المالي و المبادرات الإقتصادية و تمويل المشاريع المختلفة و كأن البنوك أصبحت عبارة عن مؤسسات إدارية عادية و ليست مؤسسات مالية تقوم على المبادرة و موازنة النفقات و الإيرادات باللجوء إلى تحسين الخدمات و تشجيع الإدخار و تحديث طرق التعامل مع الزبائن. لكن الحكم على المؤسسات البنكية و المصرفية هو حكم أيضا على السياسة المالية و النقدية المنتهجة خلال فترة المخططات و التي كانت تهدف، حسب رأينا، بالدرجة الأولى إلى خضاع كل القطاعات للدولة و جعلها في خدمة المخططات الطموحة، و ليس التركيز على ربحيتها و فعاليتها و مردوديتها.
أصبحت لدينا الأن فكرة واضحة على السياسة المصرفية والمالية والبنكية حلال الفترة 1962- 1979 .
لقد تحدثنا وقلنا بأن النموذج الجزائري للتنمية قد اعتمد أساسا على الصناعة، لكي نطلع على هذه السياسة الإقتصادية المنتهجة ننتقل إلى دراسة الإستثمارات الصناعية خلال الفترة 1967-1979.
الإستثمارات الصناعية خلال الفترة 1967-1979 -27
دراسة مصادر تمويل الصناعة الجزائرية تتطلب البحث و التطرق إلى معضلات تمويل التصنيع و ما ينتج عنها من تضخم و تبعية مالية و تقشف مفروض، و مصادر هذا التمويل سواءا كانت داخلية أو خارجية و كيفيات إستغلالها و إستعمالها بطريقة مرشدة أم أنه كان هناك تبذير للموارد و إذا كان هناك تبذير، محاولة معرفة أين وقع. نستهل الدراسة إبتداءا من سنة 1967 و هي السنة التي تصادف بعث المخطط الثلاثي. الوضع الإقتصادي و الإجتماعي و السياسي للمجتمع الجزائري غداة الإستقلال، إتسم بإختلالات متعددة. تدارك التأخر المسجل بإنتهاج سياسة تنموية طموحة مبنية على إختيار نموذج تنموي معتمد على الصناعات المصنعة و ممتص لمبالغ مالية مستثمرة كبيرة.
مصادر تمويل الإستثمار التقليدية كالإدخار المحلي و الجباية و التمويل الذاتي للمنشآت و إستعمال الموارد الطبيعية و مدى وزنها و دورها في تمويل التنمية مرت بمراحل متفاوتة و أحيانا متباينة. توجيه الإمكانيات المالية المتاحة، بنسب كبيرة، إلى قطاع الصناعة يكون حتما على حساب قطاعات أخرى لا تقل أهمية سواء من الناحية الإستراتيجية لضمان إستقلال إقتصادي منشود أو من ناحية تلبية الحاجيات الإستهلاكية المتزايدة لدى أفراد المجتمع و الناجمة عن نمو ديمغرافي وصل إلى أرقام قياسية عالمية و كذا الميل إلى الإستهلاك لتعويض فترات الحرمان و صرف كتلة الأجور التي ما فتئت تتعاظم مع مرور الزمن نظرا لمعدلات التشغيل المحققة.
عملية التصنيع لا تقتصر على إقامة مشاريع مستوردة مقابل تصدير موارد طبيعية، غالبا ما شكلت أهم مصادر التمويل، بل تتعدى ذلك إلى أبعاد متشابكة و متظافرة ذات تأثير متبادل على مستويات مختلفة إجتماعية، ثقافية، تقنية و تاريخية. إنها ليست مجرد عملية يمكن أن تقاس بالأحجام المتفاوقة للمبالغ المالية الموجهة للإستثمار أو بتعداد الوحدات الصناعية المقاومة أو عدد مناصب الشغل المتوفرة و الناتجة عن هاته العملية بل «التصنيع عملية ممكنة الإسترجاع، تضع في علاقة و في مجتمع ما الأفراد الحاملين لتصورات مضبوطة للعالم في إطار نظام للأشياء، يدخلون في تنافس لإنتاج سلم إجتماعي من خلال تغيير نظام الأشياء هذا»(20 مكرر).
بحث عن كيفيات تمويل الصناعة في الجزائر و محاولة إعداد ميزانية بما كلفته هاته العملية من جهة و ما شاركت به مصادر التمويل من جهة أخرى في فترة زمنية محددة يؤدي بنا إلى تدقيق و دراسة مختلف الجوانب المتعلقة بمصادر التمويل و مدى أهمية كل مصدر من المصادر، و معرفة فيما إذا أعتمد التمويل على المصادر الإنتاجية أم أعتمد على المصادر الريعية الإستخراجية و اللجوء إلى الإقتراض من السوق المالية الخارجية. و هل السياسة التصنيعية المنتهجة هي وليدة لتطور إجتماعي حركي كان فارضا لذلك أم إرادة فوقية نابعة من تصورات نظرية لتغيير هياكل المجتمع وفق إطار رسمت معالمه خارج المعطيات الحقيقية لواقع الجزائر في فترة زمنية معينة ؟. إن تتبع سيرورة عملية التنمية في الجزائر يوحي بأن المؤشرات تدل على أن القرارت المتخدة، تحت غطاء طموحات الشعب، إنما هي إرادة سياسة للمقررين الإقتصاديين الذين أرادوا أن يقفزوا بالمجتمع إلى مستويات عليا مقتنعين بأن أسلوب التنمية المتبع يمكن أن يحقق ذلك.
السياسة الإقتصادية المنتهجة من طرف الدولة الجزائرية و المعتمدة على الصناعات الثقيلة في إطار نظرية الصناعات المصنعة و القائمة على الصناعات الميكانيكية تكون بمثابة المحور الرئيسي الذي تدور حوله عملية التصنيع من جهة و الإعتماد عليها في جر بقية القطاعات الأخرى من جهة ثانية، من خلال تشابك قطاعي و تأثير متبادل بين القطاعات.
قبس النور- مشرف
- عدد الرسائل : 517
العمر : 55
العمل/الترفيه : متقاعدة
المزاج : هادئة
تاريخ التسجيل : 02/01/2012
مواضيع مماثلة
» السياسات الاقتصادية الجزائرية الدكتور: عبد الكريم بن أعراب الجزء الأول منقول
» الشركات المتعددة الجنسيات وخلفياتها الجزء الخامس منقول للأمانة العلمية
» الشركات المتعددة الجنسيات وخلفياتها الجزء الرابع منقول للأمانة العلمية
» الشركات المتعددة الجنسيات وخلفياتها الجزء االثالث منقول للأمانة العلمية
» الشركات المتعددة الجنسيات وخلفياتها الجزء الثاني منقول للأمانة العلمية
» الشركات المتعددة الجنسيات وخلفياتها الجزء الخامس منقول للأمانة العلمية
» الشركات المتعددة الجنسيات وخلفياتها الجزء الرابع منقول للأمانة العلمية
» الشركات المتعددة الجنسيات وخلفياتها الجزء االثالث منقول للأمانة العلمية
» الشركات المتعددة الجنسيات وخلفياتها الجزء الثاني منقول للأمانة العلمية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى